
.
.
.
.
في كل صباحٍ باهتٍ تأتي حمامة بيضاء لتقبع أسفل شرفتها ذات الستائر المسدلة ،
حين تقتحم الغيوم [ تشققاتٌ ضوئيةٌ صاخبةٌ ] معلنةً عن هطول المطر الملون بغبار النسمات المتطايرة ؛ لتسمك حياة مقبضي النافذة بيديها الدافئتين ، تغمض عينيها و تطلق نفسها المحبوس ؛ قائلةً : سأرى قوس الطر اليوم !!
تحزم أمرها ، و بكل عزمٍ تفتح بابا النافذة فإذا بغزارة الهطول تزداد انهماراً ؟؟!
تعبس .. و تقطب حاجبيها " إعتراضاً " ، يتردد الهزيم في رحاب المكان مع إيقاع المطر الناعم ليعزفا [ سمفونية الرعب ] الثائر على جسدها الصغير ، فـ \ تلجأ إلى مخبأها المعتاد ( أسفل السرير ) مهترئ الأركان ذو الملاءة البيضاء المرقعة .
مع بدء صفير الفئران و طنين الذباب بالتراقص على أنغام حشرجاتها المبحوحة ، ومن ثم يسكت كل شيءٍ على إثر صاعقةٍ صبغتْ وجه السماء [ بالشقوق ] المتوهجة ؛ أطبقتْ على أُذنيها خشية الصدى ، و قد اغتال الجوعُ تقاسيم وجهها ، و هشمتْ البرودة عظامها المتسترة بثيابٍ أهلكها الدهر ، و طغيان وقع ذاك الحذاء على درجات السلم البالية و قتما إستمال عقرب الساعة إلى السابعة و الثلث صباحاً .
ها قد آن أوان موعد لقاءها اليومي .. مع بطش الأمنيات المتمردة :
ليتني أمتلك أجنحتك أيتها الحمامة ، لأطير بها بعيداً عن هذا الخريف البائس .
آهٍ لو كنت قطرة مطرة ، لأنتقل من هنا إلى هناك و من هناك إلى حيث الغيوم و الطيور .
أتمنى الذهاب إلى أقصاي الأرض ، والتعرف على أناسٍ جدد " صغاراً و كباراً " .
سأبحث عن معالم الطفولة التي لم أراها ، سأنقب عن آثار البراءة في أعماق قلوبهم ، سأنحث على الجدران [ أنا طفلة نسيتْ معنى الطفولة !! ] .
تبعثر دوي الطلقات فإرتد صداه على مسامع الصغيرة ، فهلعتْ صارخة إلى الشرفة ، ضمتْ الحمامة إلى صدرها ؛ قائلة :
سأحميك يا حمامة ..[ كي لا يغتالوكي ]
فـ \ لونكـ الأبيض يؤرقهم ..!!
سأحميك يا حمامة .. [ فهم لا يفرقون بين الحمائم و الغربان ]
سأحميك يا حمامة .. فأنتِ [ حياة ] حياة ..!!
ركل الباب رجلٌ ضخم الجثة بزيه العسكري و بندقيته ذات ألسنة الدخان المتصاعدة ، اتسعت عينا حياة اللتان علاهما الخوف الدامع ؛ و كأن الزمن قد في سباتٍ عميق !!
تكورت على نفسها ,, ربُّما لا يلحظون وجودها ,, إلا أن هديل الحمامة دلّهم عليها ؛ أشار القائد لأحدهم فكشف الستائر التي تخبئها ، تبادل الرجال النظرات [ تعجباً ] !!
اقترب قائدهم منها ، و ابتسامة غادرة تتربع على شفتيه ، ذاعب خصلات شعرها البني بأصابعه المعطرة دماً ، ثم أردف :
- لم يتبقى سواكِ يا صغيرة .. فأخبريني أين هو محمد ؟!
حلق الصمت للحظات ثم اصطاده صراخ | حياة | الباكي :
- دعني .. لا أدري عن من تتكلم !!
فأتبع قائلاً :
- سأجعلك تدرين !!
أوغل يده في شعرها و شدّ قبضته على خصلاته الناعمة ، فانتزع بعضاً منه وهو يرمي الصغيرة إلى الجدار بطريقة وحشية مجردة من كل معاني الإنسانية ؛ ثم اسند كعب حذائه الأسود إلى خدها الأيسر ، بعد أن سقطت على الأرض بسبب الارتطام - و لاتزال الحمامة بين ذراعيها - و ذاك المتوحش يقول :
- و الآن أين محمد .. ؟!
- سأحميك يا حمامة .. فأنتِ [ حياة ] حياة ..!!
تقدم أحد الجنود إلى حيث قائده و عيناه تجولان في المكان ؛ قائلاً :
- لا وجود لـ \ محمدٍ في كل أرجاء المنزل .. و لا أظنها تعرف عنه شيئاً ..؟!
أدار القائد رأسه بنظرات المتحاذق و ابتسامة الساخر ، و هو يتمتم :
- أأنت أبله ، ألم تستمع إلى كلمات محمد على لسانها ، ألا تراها نسخة مصغرة عنه ، ليست كمن كانوا في الأسفل . لا يشبهون محمد و لا تشبهم هذه الفتاة ..!
- أيُّها القائد لقد قالوا - قبل أن نقتلهم - : إنّ محمد يأتيهم كل يومٍ وقت الظهيرة و معه الطعام والماء ليرى شقيقته و يطمئن عليها ( انتبه الجندي لشيءٍ في كلامه فاكمل و هو يشير إلى حياة ) أيعقل أنها شقيقة محمد ..؟!
تنهد القائد ابتسامةً ساخرة :
- [ و أخيراً فهمت ] !!
- ماذا سنفعل بها .. سيدي ؟ هل سنأخذها معنا أم ... ؟!
- سنتخدمها كـ \ طعمٍ لإيقاع بفرسيتنا ..لكننا سنتخلص من هذه الحمامة أولاً .
ثم جثى على ركبتيه مقترباً من حياة أثناء تلفظه بآخر عبارته .. و هو يهجم بكلتا يديه على ذراعيها المؤصدتين بإحكاماً و قوة ، ينهشهما بجبروته و حقده ، و دمعات حياة تتسابق إلى الأرض بألمٍ صارخ في فضاء المكان :
- سأحميك يا حمامة .. فأنتِ [ حياة ] حياة ..!!
و الحمامة تغرد ؛ و كأنها تردد أحرف الصغيرة ..
[ جبل الصمود يقف بثبات أمام أمواج المتعدي ، رياح الغدر تتكالب عليه من كل صوبٍ و حوبٍ ، و الشموخ يسانده ، تتساقط منه رُميلات قليلة ، لكنها تعيد لملمت شملها و بناء سفوحها ]
أعاد طيف محمد نفسه في سماءات حياة مانحاً إياها الأمل و القوة
" سأحميك يا حمامة "
هكذا نطقت شفتاها بأعينها المشعة [ ثقةً و تحدياً ]، فأشعلت كل قطرة دمٍ في جسد خصمها ، ليوسعها ضرباً إلى أن تخثرت أطرافها الدامية ، و حاكى عقلها اللاوعي ، و تناغى قلبها مع الخفوت ، قفزت الحمامة إلى قرابة الشرفة ، و نظرت إلى الطفلة المحمرة - كأن دموعها قد احتشدت - ثمّ ارتفع تغريدها الصاخب :
آهٍ .. أين أنت يا محمد ..؟! ليتك تعود لتنقذ حياة من براثن هذا المتوحش .. آهٍ يا محمد ليتني أصيح لتسمعني ..!
قاطع الحمامة دوي طلقة طائشة من فوهة بندقية القائد السوداء حطمت زجاج النافذة ؛ أصاب الزجاج المتهاوي الحمامة بالذرع ، و الهلع ، فصارت تتخبط بين الجدران الباردة ، و لم تستقر إلا في الحضن الآمن [ حُضن حياة ] ، التي لطخت الحمامة بدمائها الغزيرة ، و هزّت أكوام التعجرف بتلك النظرات الصارمة :
سأحميك يا حمامة ..[ كي لا يغتالوكي ]
فـ \ لونكـ الأبيض يؤرقهم ..!!
سأحميك يا حمامة .. [ فهم لا يفرقون بين الحمائم و الغربان ]
سأحميك يا حمامة .. فأنتِ [ حياة ] حياة ..!!
تقدمت بضع خطواتٍ نحو الشرفة المتلألئة بذرات الزجاج ، و قطرات المطر الجافة ، رفعت يداها مطلقةً سراح الحمامة ، لترفرف بجناحيها مسرعةً إلى السماء .
تبسمت حياة ، و حلقت الحمامة ، و جُنَّ جنون القائد ؛ فأطلق رصاصته الأخيرة ، لتستقر في قلب حياة التي ودعت الحياة ؛ قائلة :
طيري .. يا حمامة ..!
و أنثري ريشك الأبيض في العالم [ الأسود ]
طيري .. يا حمامة .. و أبحثي عن محمد ..
قولي له : أنني قد حميتكِ .. يا حمامة !!
طيري .. و سأحميك يـ ـا حمامة ..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق